لا تنفصل التحولات السياسية التي تشهدها دول الصراعات المسلحة العربية عن التغير في التركيبة الديموغرافية للمجتمعات القاطنة في تلك الدول، خلال السنوات التسع الماضية، بحيث برزت عمليات إخلاء السكان من مناطقهم ونقلهم إلى مدن وبلدات أخرى وتوطينهم ليحمل آخرون ولاءات مختلفة عن سكانها الأصليين، على نحو ما انعكس في جملة من المؤشرات التي تتمثل في توطين العناصر الموالية للميلشيات في العاصمة، واستهداف الأغلبية السكانية من المجتمعات المتضررة من إطالة الصراعات، وتخوف النازحين من العودة إلى مناطقهم الأصلية بعد تحريرها من سيطرة التنظيمات الإرهابية، ومساعي التنظيمات الإرهابية والعصابات الإجرامية للتوسعات الجغرافية وخدمة المصالح الاقتصادية، وتعزيز نفوذ القوى الإقليمية غير العربية.
وعلى الرغم من أن التغيرات طرأت على النمو السكاني في مراحل ما قبل الصراعات المسلحة في الدول العربية، إلا أنها اتخذت ملامح مغايرة في ما بعد تلك الصراعات التي تلت الثورات في عام 2011، وتركت بصمات واضحة في عام 2019، وذلك على النحو التالي:
الاستيطان الميلشياتي:
1- توطين العناصر الموالية للميلشيات في العاصمة: تقوم حركة المتمردين الحوثيبن بإجراء تغيير ديموغرافي يشمل توطين عناصرها القادمين من صعدة وعمران وحجة في صنعاء، حيث نقلت أعدادًا كبيرة من مقاتليها ومشرفيها مع أسرهم إلى العاصمة ونشرهم في كل المديريات والأحياء بعد أن كان ذلك منحصرًا في "مناطق الشمال"، فضلاً عن توفير مخصصات مالية لدفع الإيجارات المستحقة. وتحاول الجماعة المتمردة جلب أكبر قدر من الأتباع حتى تضمن وجود كتلة سكانية تدافع عنها لمواجهة أية محاولات للانتفاضة الشعبية ضد حكمها الانقلابي.
لذا، أشارت المصادر اليمنية الرسمية والصحف الحكومية، في 1 أكتوبر الجاري، إلى أن ثمة تهافتًا من قادة الحوثيين على شراء الأراضي واستئجار الشقق السكنية في العاصمة، بدون اهتمام بالمقابل المادي الذي يدفعونه، على نحو أدى إلى عدم قدرة سكان العاصمة على دفع الإيجارات نتيجة ارتفاعها بشكل مبالغ فيه ولا يتناسب مع قيمة العملة المحلية (الريال)، خاصة في ظل انقطاع رواتبهم وعدم صرفها بشكل منتظم، فضلاً عن عدم قدرة محدودي الدخل على العيش في صنعاء نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة بها.
ووفقًا لتلك المصادر أيضًا، فقد اعتمد القيادي في ميلشيا الحوثي ومدير ما يسمى بمكتب الرئاسة أحمد حامد، الشهير بـ"أبو محفوظ"، ميزانية شهرية تقدر بنحو مليار و800 مليون ريال (يبلغ الدولار نحو 50 ريال) لدفع إيجارات أنصار الميلشيا على امتداد ضواحي العاصمة عبر تأسيس ما يعرف بدائرة تسكين المجاهدين منذ عام 2016، ويشرف عليها بشكل مباشر. كما يتم شراء أراضي ومباني ومنازل وفلل للقيادات الحوثية المقربة من عبدالملك الحوثي. فهناك اتجاه لـ"حوثنة" المجتمع بالتوازي مع "حوثنة" أجهزة الدولة في اليمن.
تفريغ المناطق:
2- استهداف الأغلبية السكانية من المجتمعات المتضررة من الصراعات: تشير العديد من الأدبيات إلى أن ما تشهده سوريا اليوم من تغيير ديموغرافي يستهدف الأغلبية السكانية من السنة الأكثر تضررًا من الصراع على مدى يقترب من تسع سنوات. فالنظام السوري يدرك أن قاعدته العلوية لا تزال أقلية رغم ارتفاع معدلات الهجرة لدى السنة، وهو ما يفسر اهتمامه بإحكام السيطرة على المناطق المسيحية والعلوية والدرزية والإسماعيلية، أو ما يسمى بـ"سوريا المفيدة"، لا سيما في ظل نزوح تلك الأقليات الدينية والقومية من مناطق سيطرة المعارضة والميلشيات المسلحة إلى مناطق سيطرة النظام، وهو ما يصب في إطار استراتيجية "تفريغ المناطق الحيوية" وعلى طول الطرق الواصلة بين العاصمة والسواحل من الحواضن الثورية ذات الأغلبية السنية على نحو يساهم في إحداث توازن يصب في مصلحته.
وقد استخدم النظام والقوات الموالية له عدة آليات سياسية وعسكرية واستخباراتية واقتصادية لزيادة عملية التهجير القسري، ومنها تكثيف القصف الجوي على تلك المناطق المستهدفة بهدف تدمير مقومات الحياة عبر تنفيذ ما يسمى بعمليات "التطهير المكاني أو الإرهابي"، والتضييق على حركة تنقلات السكان واعتقال الشبيحة للشباب تحت دعاوي أمنية أو بحجة الاحتياج للخدمة الإلزامية أو التعرض لفترات حصار طويلة على نحو ما جرى بالنسبة لداريا والمعضمية وأحياء حمص القديمة والزبداني ومضايا وغيرها من المناطق المهجرة. فقد حدث انخفاض في عدد السكان ليس في وقت الحصار بل في الأوقات التي تلت مرحلة الحصار أو تقليص حدته.
وتم ذلك أيضًا عبر تغيير الملكية وإعادة الإعمار أو تطبيق قانون التنظيم العمراني الجديد في سوريا (القانون رقم 10) الذي من شأنه أن يؤدي إلى الإخلاء القسري للمواطنين غير القادرين على إثبات ملكيتهم ونقل ملكية هذه المناطق إلى وافدين جدد. ويشكل هذا القانون تهديدًا للتركيبة الديموغرافية في سوريا. هذا فضلاً عن اتفاقيات الإخلاء والتي تعد عملية تفاوضية ذات بعد ديموغرافي تجري بين ممثلي النظام والمعارضة المسلحة المحلية بوساطة أممية، يتمخض عنها استعادة النظام للمناطق التي تسيطر عليها المعارضة علاوة على تهجير ما فيها من مدنيين ومقاتلين، بما يؤدي إلى تصفية المناطق المناوئة للأسد، وإجراء تغيير ديموغرافي يعزز من أمن النظام وتموضع حلفائه في أية ترتيبات مستقبلية لسوريا.
هاجس العودة:
3- تخوف النازحين من العودة إلى مناطقهم الأصلية بعد تحريرها من سيطرة التنظيمات الإرهابية: على نحو ما هو قائم في بعض المناطق داخل العراق، على سبيل المثال، بعد إخراج العناصر المنتمية لتنظيم "داعش". غير أن العودة يحكمها هاجسان: أولهما، قيام الأكراد بتدمير القرى العربية في المناطق التي تمت السيطرة عليها من "داعش" في محافظة نينوى. وثانيهما، عدم استبعاد إمكانية عودة التنظيم إلى العراق مرة أخرى وذلك فى ظل اعتقاده بوجود مجموعة من المقومات التى يمكن أن تساعده على تحقيق ذلك الهدف، يأتى فى مقدمتها القدرة على التسلل من حدود رخوة عبر سوريا إلى العراق، وسهولة حصول عناصر التنظيم على السلاح داخل العراق، وكذلك وجود العديد من الخلايا النائمة التى لا يقتصر دورها فقط على الدعم والتمويل، ولكن يتعداها إلى تنفيذ هجمات إرهابية والقيام بعمليات تخريبية. فثمة تحول ديموغرافي كبير في العراق بعد تحرير المناطق من سيطرة "داعش" بحيث يصعب على السكان السنة العودة إلى ديارهم بسبب الخوف على حياتهم.
شبكات الظل:
4- مساعي التنظيمات الإرهابية والعصابات الإجرامية للتوسعات الجغرافية وخدمة المصالح الاقتصادية: وهو ما ينطبق على الأدوار التي تقوم بها المعارضة التشادية بقيادة محمد حكيمي بالتعاون مع الميلشيات المسلحة في جنوب ليبيا، حيث استغلت امتدادها العائلي بقبيلة التبو لتنفيذ هجمات متكررة في مرزق الليبية، التي تقع جنوب غربي ليبيا، في محاولة منها لتهجير السكان الأصليين، وإحلال وافدين من تشاد، خاصة أنه يتواجد في المدينة واحد من أهم الأحواض النفطية ويقدر الاحتياطي القابل للاستخراج منه بأكثر من 5 مليار برميل.
وتحتاج تلك المعارضة إلى موارد مالية لتمويل الهجمات التي توجهها للحكومة التشادية، وتمكنت قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر من إبعاد هذه العناصر عن الشريط الحدودي بمساعدة القوات الجوية الفرنسية، وهو ما يفسر سبب اللقاء الذي جرى بين حفتر والرئيس التشادي إدريس ديبي، في أكتوبر 2018، لتعزيز محاور التعاون في مجال مكافحة العناصر الخارجة عن القانون، لا سيما أن منطقة الجنوب الليبي تحولت لبؤرة تعاون بين التنظيمات الإرهابية والعصابات الإفريقية وخاصة التشادية مع ندرة عدد السكان وغياب الأمن.
بصمات طائفية:
5- تعزيز نفوذ القوى الإقليمية غير العربية: تتحرك إيران على الساحة السورية بما يقود إلى تغيير الوضع الديموغرافي، ومنح الجنسية السورية للإيرانيين واللبنانيين وخاصة من المنتسبين للحرس الثوري، وزيادة حضور العائلات الشيعية في بعض مناطق العاصمة ووسط مدينة حمص عبر شراء متاجر وأراضي بأسعار مرتفعة، هذا بالإضافة إلى جهود السفارة الإيرانية لشراء عقارات في أحياء تاريخية في دمشق القديمة، في المنطقة التي تمتد من الجامع الأموي إلى باب توما، فضلاً عن شراء مساحات من الأراضي في منطقة مقام السيدة زينب غرب العاصمة، والتي عمل حزب الله على تحصينها، وسكنت بها العائلات الشيعية اللبنانية منذ عام 2012.
ويهدف ذلك أيضًا إلى تعزيز معاقل حزب الله في شمال لبنان، ونفوذه على الحدود الشمالية لإسرائيل، حيث أن سوريا تمثل الحليف الاستراتيجي الرئيسي لإيران، ولها دور أساسي في دعم الحزب. على جانب آخر، أشار قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني في حواره مع موقع المرشد الأعلى للجمهورية على خامئني، ونشر في 1 أكتوبر الجاري، إلى أن "الهدف الأساسي من حرب يوليو 2006 لم يكن القضاء على حزب الله، وإنما إنهاء الوجود الشيعي في جنوب لبنان، عبر قصف القرى الشيعية، دون القرى السنية والمسيحية".
ولا يقتصر نفوذ القوى الإقليمية على إيران، بل يمتد ليشمل تركيا التي تسعى لتهجير سكان شمال شرق سوريا الأصليين وتوطين آخرين مكانهم، ما يعني تغييرًا في التركيبة الديموغرافية، الأمر الذي يرفضه شيوخ ووجهاء العشائر لأنه في مساحة ضيقة مثل جغرافية شمال وشرق سوريا يوجد ما يزيد عن 5 ملايين نسمة، لا يمكن توطين 3 ملايين آخرين إلا على حساب تغيير السكان الأصليين.
فالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كانت قد وافقت على عودة اللاجئين من تركيا، ولكنها ترفض تحويل قضية اللاجئين إلى أداة للتغيير الديموغرافي، لا سيما في ظل سوابق أنقرة التي اتبعتها في عفرين والباب وجرابلس وأعزاز وإدلب. وهنا، دعا عدد من شيوخ العشائر، في تصريحات صحفية في 2 أكتوبر 2019، اللاجئين السوريين من مناطق شمال وشرق سوريا إلى العودة لمنازلهم والمشاركة في إعمار مدنهم من جديد.
أين نعيش؟:
خلاصة القول، إن التهجير القسري المقصود في بؤر الصراعات المسلحة العربية، ينتج عنه تغيير كبير في التركيبة الديموغرافية في ليبيا وسوريا واليمن والعراق، لدرجة أن أحد الاسئلة التي صارت مطروحة في الأدبيات هو "أين نعيش؟" نتيجة عمليات نزوح سكان أصليين وقدوم وافدين جدد وتدخلات قوى إقليمية تهدف إلى طمس الهوية العربية وترسيخ أوضاع وهويات ومصالح جديدة، وهو ما لا يمكن تغييره إلا بحدود الدم.